ساحة ملتقى العقول
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

قضاء السماء

اذهب الى الأسفل

قضاء السماء  Empty قضاء السماء

مُساهمة من طرف عذاري الثلاثاء 20 سبتمبر 2011, 8:57 am






قضاء السماء





قبل ثلاثة أعوام، وُجدت طفلة في الرابعة من عمرها، غارقةً في مستودع المياه القذرة لدار من دور محلة (الصليخ) في بغداد.

رُوّعت بغداد لهذه المأساة، وأصبحت حديث المجالس، ونشرت الصحف والمجلات تفصيلاتها.

كانت الطفلة جميلة جدّاً، بيضاء البشرة ذات شعر أصفر اللون جعد، كأنها صورة من صور فينوس.

وكانت أمها معلمةً في مدرسة ابتدائية، وكان أبوها مديراً لإحدى الإعداديات. لم يكن في الدار غير خادمة عمرها اثنا عشرة سنة، تلاعبها حين تكون أمها بعيدةً عن الدار في المدرسة أو في السوق.

وكانت الطفلة وحيدة أبويها، وكانت سلوتهما في هذه الدنيا، تملأ الدار بِشراً ومرحاً.

وعادت الأم من مدرستها ظهراً، فلم تستقبلها طفلتها المدللة بالصخب المعتاد، فدلفت إلى صحن الدار مسرعةً، فوجدت الخادمة في المطبخ تنظف المواعين، فسألتها عن طفلتها، فزعمت أنها كانت معها قبل لحظات...!.

ودخلت الأم غرف الدار، وفتشت مسالكها، فلم تجد أثراً لطفلتها، فخرجت إلى الشارع فاقدة الوعي تسأل الجيران عنها والغادين والرائحين من الناس دون جدوى.

وجاء أبوها، فلم يترك محلاً يشتبه بوجودها فيه إلا وطرقه مستغيثاً مستنجداً دون جدوى أيضاً.

واتصل الوالدان بالشرطة ورجال الأمن، فقلبوا بغداد رأساً على عقب دون أن يجدوا للطفلة أثراً.

ومضت الساعات، وتعاقبت الأيام، والطفلة مجهولة المكان والمصير.

وهطلت الأمطار غزيرةً، وتدفقت من سطوح المنزل وشرفته ففاض مستودع المياه القذرة.

وفتح عامل التنظيف غطاء المستودع، فوجد الطفلة البريئة طافيةً فوق سطح الماء.

وأسرع رجال الأمن إلى المنزل، وبدأوا التحقيق مجدداً.

كان غطاء المستودع ثقيلاً لدرجة لا تقوى الطفلة على رفعه، فأشارت أصابع الاتهام إلى الخادمة.

ولكن لماذا أقدمت الخادمة على فعلتها الشنيعة؟

قال والد الطفلة: 'إن الخادمة هي كابنتِه، يرعاها كما يرعى ابنته سواءً بسواء'.

وقالت أم الطفلة: 'إن الخادمة أمينة مستقيمة السيرة، ولم تجد عليها ما يمسّ سيرتها من قريبٍ أو بعيد'.

وقال الجيران: 'إن العائلة كانت ترعى الخادمة رعايةً مثالية، تتناول الطعام مع العائلة يداً بيد، وترتدي الثياب نفسها التي كانت ترتديها الطفلة، وتنام في الغرفة ذاتها التي تأوي إليها الأم والطفلة'.

وكانت الأم تحرص على أن تجلس الخادمة معها عندما تزور أو تُزار. وقال الوالدان: 'إنهما لا يشكّان في الخادمة، ولا يمكن أن تُقدم على إغراق الطفلة عمداً وعن سبق إصرار!!'.

ولم يكتف رجال الأمن بما سمعوا، وأصرّوا على التعمّق في التحقيق.

وسأل أحدهم الخادمة: 'لماذا أغرقتِ الطفلة؟'، فانفجرت الخادمة باكيةً منتحبةً وأصرّت على الإنكار.

وكان الوالدان يحميان الخادمة ويصرّان على براءتها.

وطلب رجال الأمن أن يصطحبوا الخادمة إلى مقر الشرطة، ليدققوا في التحقيق. وامتنعت الخادمة، ولاذت بأم الطفلة تتمسك بأهداب ثيابها، فرجت الأم أن يتركوا الخادمة وشأنها، لأنها تشكّ في نفسها ولا تشك في الخادمة مطلقاً.

وأيّد الأب رجاء الأم، وقال: 'إنه يتنازل عن حقه الشخصي'.

ولكن رجال الأمن أصروا على استصحاب الخادمة إلى مقرهم وقالوا: 'إنكم إذا تنازلتم عن حقكم الشخصي، فإن الحق العام لا يمكن التنازل عنه'.

وابتدأ الردّ والبدل بين رجال الأمن من جهة، وبين الأبوين من جهة أخرى، وأخيراً اضطر رجال الأمن إلى خطف الخادمة خطفاً وهي تصرخ بأعلى صوتها وتنوح.

وفي مقر رجال الأمن، اعترفت الخادمة أن أباها قد أمرها بإغراق الطفلة في مستودع المياه القذرة.

وأنكر أبو الخادمة أقوال ابنته، وزعم أنها اعترفت خوفاً من الضغط والتعذيب، وأنها صغيرة لا تقدِّر خطورة أقوالها.

وبذل رجال الأمن محاولاتٍ كثيرة، واستعملوا كل أساليبهم في التحقيق دون أن يتزحزح أبو الخادمة عن إنكاره.

وعند عرض القضية على المحاكم، حُكم على الخادمة بالسجن خمس سنوات تقضيها في سجن الأطفال غير البالغين، حيث تقوِّم أخلاقها وتتعلم حرفةً من الحرف.

وصدر الحكم ببراءة والدها، فغادر التوقيف بعد قضاء شهرين فيه.

وفي السجن اعترفت الخادمة بكل شيء.

لقد قبض والدها مائة دينار من شابين شقيقين فُصلا من الإعدادية لأنهما مهملان في الدروس وغير مستقيمي السيرة.

وكان السبب في فصلهما من المدرسة والد الطفلة الغريق، الذي هو مدير تلك المدرسة.

لقد أراد والد الطفلة أن يطبق النظام نصاً وروحاً، وكان يشعر شعوراً كاملاً بمسئوليته أمام رجال التربية والتعليم وأمام أمته ووطنه وعقيدته، وكان يشعر قبل كل ذلك وفوق كل ذلك بمسئوليته أمام الله سبحانه وتعالى، لهذا أصر على فصل الشقيقين غير ملتفتٍ إلى رجاء الراجين والتماس الملتمسين.

وحين يئس الطالبان من عودتهما إلى المدرسة، أغريا والد الخادمة بالمال وأمراه أن يحرق قلب والد الطفلة كما حرق قلبيهما.

وكان أبو الخادمة فرّاشاً (آذناً) في المدرسة نفسها، وكانا يعرفان أن ابنته تعمل في دار المدير، وهي قادرة على القضاء على حياه ابنة المدير، وقتلها يحرق قلب المدير أكثر مما يحرقه شيء آخر.

ولكن المحاكم قضت ببراءة والد الخادمة، والمحاكم تحكم استناداً إلى أقوال الشهود واعتراف المتهم.

وفي تلك القضية بالذات، لم يكن هناك شهود، والمتهم لا يعترف بجريمته، وكيف يعترف وهو يعرف أن الاعتراف يقوده إلى المشنقة؟.

وقال قضاء الأرض كلمته، فلم تبق غير كلمة قضاء السماء.

***

وخرج أبو الخادمة من السجن يستنشق عبير الحرية، وأمله أن يتمتع بالمال الحرام...

فما الذي حدث؟

أقيم حفل عائلي فرحاً بخروج والد الخادمة من السجن استمر حتى الهزيع الأخير من الليل.

وبددت العائلة في الحفل شطراً من المال طعاماً وشراباً.

وفي صباح اليوم التالي، سقط والد الخادمة مريضاً لا يقوى على الحركة.

ولجأت الأسرة إلى الأطباء، يدفعون أجرة العيادة، ويدفعون ثمن الدواء.

وطالت مدة مرض الرجل، حتى امتدت أربعة أشهر، كانت كافيةً لتبديد المال الحرام، فاضطرت العائلة إلى الاقتراض.

وقصد والد الخادمة المستشفى الحكومي الذي يعالج بالمجان، لأنه بدّد ماله ولم يعد قادراً على استدعاء أطباء.

كان يشكو مرض السكر، والضغط العالي، والتدرّن الرئوي، ثم أصيب بالزكام الحادّ إضافةً إلى كل تلك الأمراض.

إرتفعت حرارته، وانهارت قواه، وكان كما يبدو في المستشفى شبحاً من الأشباح.

وفي المستشفى انتقل من طبيبٍ إلى طبيب، ومن ممرضة إلى ممرضة، محمولاً على النقّالة.

وكان كل مريض يلقى عطفاً خاصاً من الناس، ولكن هذا الرجل كان يلقى التشفي والاشمئزاز.

كانت الهمسات تصادفه في كل مكان، وكان كل من يراه يشير إليه بأنه قاتل الطفلة، وأنه لا يستحق العطف والحنان.

وفي المستشفى فحصه الطبيب المختص وأعطاه الدواء اللازم، وكان ضمن الدواء إبرة بنسلين.

وزرقته الممرضة بالإبرة، فغادر المستشفى مع زوجه إلى الدار.

وفي الطريق شعر بخدرٍ في جسمه، وبارتباك في نبضات قلبه، ثم صرخ فجأة: الطفلة.. الطفلة.

وسألته زوجته: أيّ طفلة؟

قال الرجل: ألا ترينها؟! إنها تشدّ بكلتا يديها على عنقي.

ومال رأسه على كتف زوجته رويداً رويداً، واحتقنت عيناه وخفت صوته الذي كان يردّد: الطفلة... الطفلة، ثم فارق الحياة.

الخادمة لا تزال في السجن الإصلاحي لتقضي فيه عامين آخرين، ووالدها استقر في القبر مصحوباً باللعنات، وأمها في الدار حائرةً بإعالة طفل وثلاث بنات، وبناتها الثلاث في سن الزواج، ولا أحد يتقدم لخطبتهن.

لقد علل أبو الخادمة نفسه بنعمة المال الحرام، ولكن الله كان له ولأمثاله بالمرصاد.

وإذا قصّر قضاء الأرض، فلن يقصِّر قضاء السماء، أفلا تذكّرون؟؟!!




منقووووووووووووووووووووول






عذاري
عذاري
منسق تابع للإداره
منسق تابع للإداره

عدد المساهمات : 12704
تاريخ التسجيل : 07/08/2010
الموقع : سلطنه عمان

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

الرجوع الى أعلى الصفحة

- مواضيع مماثلة

 
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى